يوم فيكتوريا
في كل عام، يحتفل الكنديون بيوم فيكتوريا في الاثنين الذي يسبق 25 من مايو. هذا اليوم يحمل…
في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتداخل فيه الهويات والثقافات، أصبح للطعام وظيفة تتجاوز سدّ الجوع؛ بات وسيلة للتعبير، للانتماء، ولخلق مساحات مشتركة بين الشعوب. ومن بين الأمثلة الحيّة على هذا المفهوم، يبرز ريجواي بلازا في مدينة ميسيساغا الكندية، كمكان لا يشبه سواه. هذا المجمع التجاري، الذي يعتبر الأكبر من نوعه في أمريكا الشمالية، لا يجذب الزوار فقط بسبب كثافة مطاعمه، بل لأنه استطاع أن يصنع هوية متفردة عنوانها: “كل شيء… بشرط أن يكون حلالاً.”
عند وصولك إلى ريجواي بلازا، تشعر أنك دخلت إلى فسيفساء من العوالم المتعددة. تفوح من كل زاوية روائح مختلفة تنقلك من مطبخ إلى آخر، من الشاورما والمشاوي العربية، إلى الكباب التركي، فالبرياني والكاري الباكستاني، ثم المانتي والرز البخاري الأفغاني، وحتى النكهات الحلوة من الحلويات الشرقية والغربية بتوقيع “حلال”.
ورغم أن الكثيرين يربطون هذا المجمع بالجالية الباكستانية، إلا أن الواقع أوسع من ذلك بكثير. فالأغلبية فيه ليست فقط من جنوب آسيا، بل يشكل العرب – من مختلف الجنسيات – حضورًا قويًا، إلى جانب الأتراك والأفغان وبعض من الجاليات الإفريقية والشرق أوروبية التي تقدم طعامًا عالميًا معدلًا ليتماشى مع مفهوم الحلال.
في ريجواي بلازا، لا يقتصر “الحلال” على اللحوم فقط، بل يشكل فلسفة متكاملة في الإنتاج والعرض والخدمة. المطاعم هنا تراعي ضوابط الذبح الشرعي الإسلامي، وتتجنب الخمور ومشتقاتها، وهو ما يمنح الزوار – خاصة العائلات المسلمة – طمأنينة في خياراتهم. هذه الثقة خلقت علاقة خاصة بين روّاد المكان وأصحاب الأعمال، حيث لا تقتصر الزيارات على الأكل فقط، بل تتخذ طابعًا اجتماعيًا وعائليًا.
العدد الهائل للمطاعم في ريجواي بلازا يجعل الزائر في حيرة حقيقية: بماذا يبدأ؟ ومن أين يختار؟ فمن محلات الأكل السريع، إلى المطاعم المتخصصة، إلى الكافيهات والحلويات، يحتاج المرء إلى أشهر وربما سنوات لتجربة كل شيء. هناك من يزور المكان أسبوعيًا لتجربة مطعم جديد، والبعض يجمع بين أكثر من مطبخ في وجبة واحدة!
من بين الأسماء التي لاقت شهرة واسعة داخل وخارج كندا: مطعم “أل فرات” العراقي، و”سرايا” اللبناني، و”جينسوي” الآسيوي، و”بوتيتو بار” للمأكولات السريعة، إلى جانب “رحَت” الباكستاني، و”زلابية” للحلويات، و”ميلت أند ديب” لعشاق الشوكولاتة.
ورغم روعة التجربة، إلا أن ريجواي بلازا لا يخلو من الانتقادات. أبرز ما يُشتكى منه هو الازدحام الشديد، خاصة في ليالي نهاية الأسبوع، حيث يصعب إيجاد موقف للسيارة، ويتحول المكان إلى خليط من المشاة والسيارات في فوضى شبه منظمة. البعض وصف المواقف بأنها “حلبة تصادم”، فيما يرى آخرون أن التنظيم لا يرتقي لحجم هذا المجمع الذي بات مقصدًا إقليميًا لا محليًا فقط.
كما يثير البعض جدلاً حول مصداقية بعض المطاعم في تطبيق معايير “الذبح الحلال” أو تقديم أطعمة مختلطة دون توضيح، مما يطرح أهمية المراقبة الذاتية والثقافية داخل هذه المنظومة.
من الأمور المميزة في ريجواي بلازا هو وجود مسجد صغير داخل المجمع، ما يعكس حرص القائمين عليه على تلبية حاجات الجالية المسلمة بشكل متكامل. لا تقتصر الزيارة هنا على الطعام فقط، بل تشمل أداء الصلاة، ولقاء الجيران، والتسوق، وحتى قضاء وقت عائلي ممتع.
ما يجعل ريجواي بلازا مختلفًا حقًا هو قدرته على أن يكون مرآة للجاليات المهاجرة، وخصوصًا المسلمة، التي تبحث عن فضاء يشعرها بالانتماء دون أن تتنازل عن مبادئها. إنه المكان الذي يجتمع فيه اللبناني مع البوسني، والباكستاني مع الصومالي، في مشهد يعكس تنوع العالم الإسلامي وتعايشه داخل نموذج المجتمع الكندي.
في نهاية المطاف، لا يمكن اعتبار ريجواي بلازا مجرد مجمع طعام. إنه مشهد ثقافي واجتماعي وإنساني يعكس تطور مفهوم الهجرة والانتماء، ويبرهن أن الطعام الحلال يمكن أن يكون بوابة للحوار والانفتاح، وليس فقط مجرد قيود غذائية.